Friday, October 31, 2008

السردية الأولى


غريزة البقاء

واركب الحنطور.. درجن درجن
واتحنطر.. درجن درجن

أركب الحنطور.. درجن درجن
واتحنطر.. درجن درجن

واقعد قدام.. درجن درجن
واشد اللجام.. درجن درجن


طق طق طق


-يييييييييييييييييييه

يدوس زر التجميد - بوز- ويخلع سماعات الأذن بحنق

-إيه يا إيهاب؟ مش كفاية كده؟ مش هنلاقي مواصلات يا عم تحدفنا في بيوتنا

-لسة شوية.. امشي انت لو عايز

-يعني أنا بعد ما استناك كل ده تقولي إمشي انت؟

-معلهش، شكلها فيها بيات الليلادي.. الفرح دا متشلفط ع الآخر وهياخد وقت كتير

- يا سلام! وإيه الجديد يعني؟ ما كل الأفراح ع الحال ده يا صاحبي. هنبات جنبهم بقى عشان نعمل م الفسيخ شربات؟ يا عم قوم.. قوم، الفرح مش هيحمض.. ولا أنت خايف العريس يطلق العروسة قبل ما تلحق تسلمه الشريط؟

-هو الأحسن انهم ماكانوش يتجوزوا من أساسه، كانوا عملوا معروف في البشرية. دا أهله وأهلها عمالين يزغروا لبعض طول الفرح، تقولش بينهم تار

-طب تعالى بقى.. سيبك منهم، الله يحرقهم.. أنا عارف بيتهببوا ليه ويشيلونا همهم؟ أما الفرح اللي ف إيدي بقى يا صاحبي إييييييه.. مووووووووووز.. كمية رقص وشخلعة يا معلم؟ أنا شغال فيه بمزاج الصراحة. ناوي أنام عليه الاسبوع ده كله

-أرزاق!.. معلش روح انت.. أنا قاعد للفرح المنحس ده لما أشوف آخرتها إيه

-بشوقك يا ملك المونتاج.. ماشي، هكت أنا بقى، يا دوب كدا.. على عيني أسيبك لوحدك بس الشبشب زمانه اترفع من ييجي ساعة

-ماشي يا عسل.. خد الباب في إيدك الله يسترك

يقذف له قبلة في الهواء ويرد عليه زميله طارق بمثلها و"قشطة عليه" فوق البيعة، ثم يغلق الباب ويطفيء الأنوار بالخارج لأن "دي فلوس ناس، مش تكية" كما يقول صاحب العمل

يضع إيهاب سماعات الأذن من جديد، ويفك التجميد بالضغط على نفس الزر- بوز

بس اقعد قدام.. درجن درجن
واشد اللجام.. درجن درجن

يشعل سيجارة أخرجها للتو من علبة كانت ملقاة أمامه.. ينفث دخانها في الهواء ليظهر نفس المشهد الصاخب تدريجيا

لو كان الزمن منصفا لكان إيهاب قد احترف المونتاج السينمائي ولأصبح واحدا من أشهر العاملين في هذا المجال. عمله هو هوايته التي يجيدها ويعشقها. تمر الساعات من عمره وهو محدق في شاشات المونيتورز، يراقب كل حركة بعناية، ليصنع من هذه الاحتفالات العشوائية تحفة فنية. هو يعرف ما تعنيه ليلة العمر لزبائنه جيدا.. بل لديه فلسفة خاصة في التعامل مع هذه الشرائط المسجلة وكأنها بشر من لحم ودم.

المونتاج بالنسبة له هو العنصر السحري الذي يدخل على هذه الشرائط المملة المليئة بالمشاهد العبثية والبشعة أحيانا ليصنع منها شيئا ذو قيمة عالية، وقيمته لا تتمثل فيما يحتويه بقدر ما تتمثل فيما لا تحتويه!.. هذا هو الفرق بين أن تسجل مناسبة بالفيديو بنفسك وبين الاستعانة بالمحترفين. المحترفون يضمنون لك صورة مثالية لحياتك ومناسباتك.. صورة يمكن عرضها على الآخرين دون خجل أو توتر.. ذكريات منقحة.. فالمحترفون بارعون في صناعة وهم الكمال.

ببساطة أصبح في استطاعتك أن ترى شريط حياتك كما تتمناه وكما تريد أن تراه، دون الحاجة للواقعية السخيفة التي تفقد الأشياء رونقها.. كل هذا في مقابل بضع مئات من الجنيهات! يا بلاش.. تشتري ليلة العمر التي تحلم بها.. موثقة على شريط صلب.. ذكرى تدوم وتدوم بعد أن تفنى أنت شخصيا. ذكرى ليلة من ألف ليلة.. حيث الفرحة، والابتهاج، والزغاريد، والبوفيه الفخم، والفتيات الحسناوات، والشباب المرح، والعروسة اللي زي القمر، والعريس اللي حلو ومدلع من يومه واسم الله عليه ملو هدومه.. ليلة عمر كما تنبغي أن تكون!

إيهاب يقول أن ذكريات الانسان هي كائن حي.. لها دورة حياتها الخاصة والمستقلة.. كما أنها تتمتع بغريزة بقاء مثلها في ذلك مثل البشر تماما! ووفقا لنظريته، فالذكريات قد تعلمت من ملاصقتها للانسان نفس طبائعه بما فيها الغدر والخداع والمناورة.. فهو يستطيع بجبروت يحسد عليه أن يمحو أي شيء لا يحلو له.. يسقطه من ذاكرته، وكأنه لم يمر به قط! كائن عجيب! بارع في خداع نفسه وصنع تصورات وهمية عن ذاته!

بالنسبة للذاكرة فالانسان هو مجرد آلة مونتاج كبيرة.. ولكنها آلة لا تتمتع بالأمانة.. آلة تسعى دوما لتزوير الواقع!.. كائن كاذب، يمارس الكذب على نفسه قبل أن ينقل كذبه إلى الآخرين.. كائن يهوى تصديق الكذب وتكذيب الصدق، وإذا عاندته ذاكرته التي تأبى الكذب، كبتها وألقى بمحتوياتها في سلة المهملات. ولكن حظه التعس يحرمه من الاستمتاع الكامل بحياته\كذبته.. فسلة مهملات العقل البشري قدرتها الاستيعابية أقل كثيرا من قدرته هو على الادعاء والتزوير.. فسريعا ما تمتليء وتكتظ بتاريخه الموازي.. التاريخ الأسود.. القبح المركز الذي ترسب في قعر مصفاته بعد عملية الترشيح. هذا هو عقله الباطن.. عقله الموازي.. الذي يطفح مثل البكابورت بين حين وآخر ليؤرق عليه حياته ويبتليه بالكوابيس حين يذهب عقله الواعي في غفلته الليلية

إيهاب يقول أن مبدأ البقاء للأفضل ينطبق أيضا على ذكريات البشر. فما يريد ان ينساه الانسان يموت ويدفن معه.. البقاء هو لشريط الذكريات البلاستيكي أبو سوليفانة.. الصور الجميلة المنمقة المبهجة. أما ترسيبات ذلك فتذهب إلى الجحيم. من هي المرأة التي تريد أن تُخلد لحظة اتساخ فستانها الأبيض الجميل اللي بالشيء الفولاني أثناء احتفالها مع الجميع بليلة عرسها؟.. من هو الرجل الذي سيدير شريطا يفضحه مرارا وهو يرقب الراقصة بنظرات غير بريئة؟.. من الذي سيتهافت على استعارة شريط حفل يشك بأنه يظهر فيه في وضع محرج أو بشكل غير لطيف؟؟ إذن الحل الوحيد لبقاء هذه الذكريات هو أن تكون أفضل من الواقع.. وهنا يأتي دور الكائن الطفيلي الذي يساعدها على البقاء..هنا تتم الاستعانة بعيون فنان حساس وذكي وبارع مثل إيهاب.. ليصنع من الفسيخ شربات ليلة العمر


**********



يا أحلى منهووووم.. يا فارقة عنهووووووم
انتي اللي فيهوووم.. وهما فينهوووم؟

تستمع سماح إلى الراديو بسعادة بينما هي تحدق بتركيز رهيب في المرآة وتنهمك في محاولة نتف شعيرات قد بدت في أولى مراحل النمو حول حاجبها المحدد بعناية.. شعيرات لا تكاد ترى بالعين المجردة.. وفي وسط التركيز والانهماك

-بت يا سمااااااااااح

-أيوة يا اما

-بتعملي إيه يا بت؟

-عايزة حاجة يا اما؟

-انتي يا بت هتنزلي امتى؟ هتتأخري ع الشغل.. انتي عايزاهم يخصمولك م الكام ملطوش تاني؟

-حاضر.. نازلة أهوه. (وفي نفسها) أوووف.. يا ساتر

وبعد ثوان معدودات

-انتي لسة ما نزلتيش يا بت؟

-يا أما نازلة.. بشوف الكيس فين

-ياللا يا غندورة.. اخلصي

تلقي بالملقاط والمرآة على مضض

-سلام يا اما

-سلام يا اختي

سماح فتاة كادحة.. مش كادحة أوي يعني.. إنما بتجري على لقمة عيشها وعيش أمها واخواتها

أختها الكبرى تزوجت منذ عامين وسافرت مع زوجها إلى الخليج الذي استطاع الهرب إليه بعد محاولات عديدة، ومنذ ذلك الحين لم تتعطف بجنيه أبيض على أسرتها التي تركتها خلفها. فاضطرت سماح للنزول للعمل وهي في تانية معهد.. ومع الوقت تأكد لها عدم جدوى محاولة الجمع بين العمل والدراسة لأن صاحب بالين كداب. وفي عامين تنقلت بين أكثر من عمل.. لكن منذ ثلاثة اشهر استقر بها الحال في محل كوافير في حي شبه راقي بقلب القاهرة

-إنتي بتعرفي تعملي مانيكير وباديكير

-أتعلم يا فندم. أنا مخي نضيف.. وخارجة من تانية معهد والنعمة

-احنا مش هنعلم لسه.. احنا عايزين مانيكيريست شاطرة

-أنا شاطرة أوي والله يا فندم.. بس أنا كان قصدي اتعلم طريقتكم هنا في الشغل يعني

-انتي كنتي بتشتغلي فين قبل كده

تبحث عن إجابة تنجدها

-ف محل صغير كدة في حتتنا.. بس كان بيشغي زباين يا فندم

-وكنتي بتعملي إيه هناك بالظبط؟

-كل حاجة.. بعمل كل حاجة

-يعني إيه كل حاجة؟ يعني تعرفي تعملي سيشوار؟ تعرفي تلفي للزباين؟

-ألف للزباين؟

-أيوة!.. تلفي بوكل!.. ما تعرفيش تلفي بوكل؟

-أعرف.. أعرف يا فندم. أنا أعمل كل اللي انتو عايزينه

-هأجربك اسبوعين.. مشيتي في الشغل نربطلك مرتب.. ما مشيتيش يبقى تتفضلي من سكات من غير دوشة

-بس يا فندم يعني.. حق الطريق أجيبه منين في إسبوعين بحالهم؟

-نتحاسب بعد إسبوعين.. يا مين يحيينا.. وساعتها نشوف مين هيبقاله عند التاني فلوس

-ازاي يعني يا فندم؟

-إيه هو اللي ازاي؟ إفرضي بوظتي حاجة، كسرتي حاجة.. مين هيدفع تمنها؟ خلي بالك احنا الأصناف اللي بنستخدمها مستوردة

-لأ إن شاء الله يا فندم مفيش حاجة حتبوظ.. كله هيبقى زي الفل.. والله يا فندم ده أنا شاطرة جدا

-هنشوف.. هنشوف

وفعلا تفوقت على نفسها في شرب الصنعة في زمن قياسي، فهي كأنثى تعرف كيف تهتم بشئونها الأنثوية.. كما أنها تهوى الثرثرة مع البنات الهاي ولاد الناس، فاثبتت جدارتها بالوظيفة

تخصصت سماح بفعل الناتشرال سيليكشن في تجهيز العرائس.. فقد عاشت تحلم بالفستان الأبيض واليوم الذي سينزل فيه تيتر النهاية على مشهد عريسها وهو يغلق باب الغرفة بينما هو منهمك في طبع قبلة طويلة على شفتيها.. تغرق في أحلام اليقظة طوال اليوم وهي تتخيل ليلة زفافها بألف شكل وألف طريقة.. تتفنن في تخيل فستان فرحها الذي جمعت موديله من كل الفساتين التي رأتها في الأفلام والمسلسات والمجلات. هي تتنفس هذا الحلم وتراهن على تحقيقه.. قمة طموحها.. الجائزة التي تستحقها بعد العناء والمرمطة برغم جمالها وصفاتها الانسانية العديدة

لهذا كانت تبالغ سماح في الاعتناء بالعرائس بصرف النظر عن حجم البقشيش المتوقع.. فتزيين وتحضير العروسة لليلة زفافها يجعلها تحقق التلاحم التام مع أحلام يقظتها.. فتتقمص شخصية العروس وتجعل منها فاكهة تطلب الأكال. فتمرر معجون نزع الشعر -الذي تعلمت أن تدلعه باسمه الاجنبي بدلا من المحلي- أكثر من مرة على جلد العروس، ليكشف عن طبقة جديدة من الجلد الأملس والأكثر بياضا. كما أنها تقوم بتدليك العروس بالزيوت العطرية بعد عمل التكييس اللازم وكحت أسفل القدم.. إلى ان يحين وقت الفينشينج بوضع طبقة التلميع الأخيرة من الكريمات وطلاء الأظافر

أوجدت سماح روحا تنافسية بين العاملات في المحل .. فسعدت بذلك الادارة وقرر المدير إشعال الحماسة أكثر بتخصيص مكافأة لمن "تشكر فيها الزبونة".. وبالطبع سريعا ما تحولت المنافسة -بفعل التطور الطبيعي للحاجة الساقعة- إلى حرب غير شريفة بين فتيات المحل

Tuesday, October 28, 2008

سردية الخصيان - مقدمة


سردية الخصيان

مقدمة

هذه ليست قصة قصيرة ولا طويلة
ليست رواية ولا مسرحية ولا ديوان شعر

هي تجربة أدبية مختلفة
ليست من نتاج الخيال

فكل أحداثها من صميم الواقع
وإن كان دور الكاتب هو صياغة هذا الواقع في شكل أدبي

قد يتدخل الخيال ليضع بعض المحسنات البديعية
وقد ينحسر في بعض الأوقات ليطرح الواقع بكل جفافه وبرودته

***

التجربة دي مش هتكون بالفصحى ولا بالعامية
هتكون مزيج بين الاتنين
زي ثقافتنا اللي العمل دا نابع منها
واللي هي المادة الأساسية للأحداث اللي هأحكيها

اسمحولي يعني أجرب معاكم نوع جديد لانج من الأدب
أدب لا هو مكلكع ولا هو مفتقد للرصانة
أدب متمرد.. زي اللي كاتباه
أدب مجنون زي الأحداث اللي فيه والمجتمع اللي هو نابع منه

هندخل التجربة دي سوا
القاريء والكاتب مع بعض
هنغزل مع بعض صورة لمجتمعنا
عشان تبقى قدام عينيا وعينين الأجيال الجاية

ممكن نتعلم منها حاجة
لكن الأكيد إن الأجيال الجاية هتتعلم منها كتير
لأننا بالنسبالهم هنكون مجرد مادة للدراسة والتحليل
هنكون التاريخ.. بكل آلامه وأحزانه وواقعيته

أنا أخترت للعمل الأدبي ده عنوان مناسب.. مجرد مناسب
ممكن يكون صادم للبعض
ممكن يكون تقيل على البعض
ممكن يرحب بيه البعض

سردية معناها حدوتة
والخصيان ليها معاني كتير.. هنكتشفها مع بعض
الخصيان هم كل الناس اللي فقدوا جزء حيوي منهم
وحيوي برضه لها معاني كتير.. منها مثلا إنه مانح للحياة

***

الحياة التي نحياها هي اختبارنا الأول والأخير
فرصتنا الوحيدة التي نرسب فيها مع سبق الاصرار ووأد المصير

أيامنا هي حروف نكتب بها تاريخنا
وتاريخنا هو الذي يبقى طويلا بعد زوالنا ليحمل ذكرانا

تاريخنا هو الشاهد على أننا كنا يوما هنا
تاريخنا هو الراوي الذي سيسرد رواياتنا

وهذه هي مجرد محاولة لرؤية هذه السردية
والتي تتمنى الكاتبة من كل قلبها ألا تعنونها الأجيال المستقبلية

سردية الخصيان